صـــحفي يروي قصة سيفو و سفيان رحمهما الله
سيف الدين استلف مبلغ تذكرة المباراة من شقيقه وسفيان قال لأمه "راني حاس مارانيش رايح نعيّد معاكم"
... لم يبق لها غير قميص اتحاد العاصمة تستنشق من خلاله رائحة فلذة كبدها سيف الدين، وجدناها وهي تصرخ باكية: "...ذهبت حيا ورجعت في نعشك..". لم تجد أم سفيان أحد المشجعين اللذين توفيا على هامش مباراة الاتحاد والمولودية، ما تقوله لنا سوى هذه الكلمات... وكأنه كان يحس بأنه سيموت، لقد أخبرني قبل يومين قائلا: "لعجوز راني حاس مارانيش رايح نعيد معاكم".
لم تكن تدري أم سيف الدين المدعو "سيفو" أستاذة اللغة العربية أن ملعب 5 جويلية سيقتل ثاني أبنائها، وهي التي فقدت منذ 10 سنوات شقيقه الأكبر في حادث مرور، مثلما لم تكن تدري والدة سفيان أن أكبر أبنائها سيخطفه الموت من بين أحضانها وهو في سن الـ26 ربيعا.
الساعة التاسعة صباحا نصل إلى حي "العافية".. احتشد الكثير من أبناء الحي، كثيرون لم يذهبوا للمدرسة فضلوا انتظار وصول جثماني صديقيهما، سفيان وسيف الدين.
عندما وصلنا إلى المكان لم نكن بحاجة إلى السؤال عن بيت الفقيدين، فالحي بكامله كان في جنازة مهيبة، أخرج عدد كبير من الجيران الكراسي وفتحوا شقق العمارات لاستقبال التعازي... واحتضن الشارع الرئيسي بالقرب من سوق الخضار والفواكه جنازة سيف الدين، ابن أستاذة اللغة العربية التي يعرفها الخاص والعام، لأن أبناء الجيران تتلمذوا على أيديها.
استقبلنا جار الوالدة وهو يصيح قائلا: "... لا تسألوا عن بيت سيف الدين، ليس لهم بيت، لأنهم يؤجرون قبوا للعيش، لقد فتحت لهم بيتي حتى تتمكن والدته من إلقاء النظرة الأخيرة على فلذة كبدها..".
وبعد لحظات، أتى إلينا خال سيف الدين، وذهبنا برفقته للحديث مع الوالدة، كانت النسوة في كل مكان، وكانت أم سيف تتوسط النسوة وهي تحتضن قميص اتحاد العاصمة، وهي تصرخ وتقول بصوت مبحوح: "ذهبت ولم يبق لي غير هذا القميص... مازال ريحتك فيه يا وليدي وشكون يقولي نوضيني نشوف المباراة.. وشكون يقولي يا يما وكتاش يفرج علينا ربي وتكون عندي دار نشوف فيها المباراة وحدي... رحت يا وليدي وخليتني كيما مات خوك".
"سيفو" كان يعيش في قبو عمارة وينام ليلا في السيارة
صيحات أم سيف الدين كانت تكفي وحدها لنعرف وضع العائلة الإجتماعي... تقدمت منها محاولة تقديم التعازي... واكتفت بهذه العبارة قائلة: "ما ذنب ابن عشق كرة القدم أن يسقط عليه مدرج ويقتله.. ما ذنب شاب لم يرتكب أي جرم سوى أنه أحب فريقه، وكان يتنقل معه في كل خرجاته حتى يسرقه الموت مني.. ما نقدرش نسامح".
ذهبنا بعدها رفقة ابنة خالة سيف الدين إلى مكان عيشه، وصدمنا، لأن المكان ما هو في الحقيقة سوى قبو عمارة، يضم مطبخا، حيث كانت تجمع شقيقين معا بالإضافة إلى الأم والأب، تصيح ابنة خالته: "هنا كان ينام ويطوي فراشه وغطاءه معا، لأنه بكل بساطة ومن ضيق القبو ليس للأفرشة مكان تطوى داخله".
ثم يتقدم منا والد سيف الدين، وهو حارس مدرسة ابتدائية يتحدث قائلا: "أحيانا كثيرة كان ينام في فناء العمارة، ومرات أخرى كان ينام في السيارة... لقد رحل من القبو إلى القبر".
... وغير بعيد عن عائلة سيف الدين، تقطن عائلة الشاب الثاني سفيان عزيب، صاحب 26 عاما، مناصر وفي لاتحاد العاصمة، بالقرب من باب العمارة الرئيسية يجلس والد سفيان حزينا يتلقى التعازي...
عمي ابراهيم، عاطل عن العمل، كان سفيان هو من يقوم بإعالة العائلة بصفته موظفا في السكك الحديدية، بالكاد يتحدث معنا عمي ابراهيم، يستجمع قواه ويقول: "لقد كان يتنفس كرة القدم، ويعشق مباريات اتحاد العاصمة، كان لأمه إحساس غريب في آخر مباراة له، وكأنها كانت تشعر بأنها لن تراه بعد تلك المباراة... -وفجأة يسحب منديلا من جيبه وتتساقط الدموع من عينه، ثم يردد بين شفيته- قائلا: "رحت وخليت باباك يا سفيان، مع من نشوف المباراة بعد اليوم".
صعدنا بعدها إلى مكان تواجد النسوة، حيث كانت والدة سفيان تمسك بين يديها صورته وهي تصرخ قائلة: "ياك قلتلك متروحش.. علاه رحت وخليتني"، كان صعبا علينا أن نقترب من أم ملتاعة بفقدان فلذة كبدها.. وبمجرد ما شعرت بأننا صحافة، وكأنها حاولت أن تسألنا بقولها: "علاش ياك راح يشوف المباراة.. علاش يموت في الستاد علاش.. من بنى الملعب حتى يموت فيه أولادنا"
حسبي الله و نعم الوكيل ... حسبي الله و نعم الوكيل